عمارة بلا أخلاق.. هل تكون سببا للعنوسة؟

بعيدًا عن تلك العبارات المحفوظة التي يرددها علماء الاجتماع وعلم النفس عن أسباب تأخر سن الزواج أو العنوسة للنساء وللرجال معًا، والتي يحصرونها في أسباب اقتصادية أو اجتماعية وفي بعض الأحيان نفسية.. هناك بُعد آخر قد يزيل طرف القائمة التي تتضمن الأسباب والداء؛ إذ لا يجده البعض سببا مباشرا. سبب يحيط بنا ونعيش فيه، والمتخصصون يرونه يعيش فينا ذلك هو شكل وتصميم المسكن.. البيوت داخلها وخارجها.. المدن شوارعها وطرقها.. العمران بما يتسع ليشمل أنماط حياتنا ويؤثر على شكل علاقتنا.. إنها المساحات التي نتحرك داخلها وتتحرك داخلنا.
سكن يشجع على الزواج!

“إن تخطيط المدن الإسلامية كان له أعظم الأثر في المساعدة في إتمام الزواج متى وصل الشاب والفتاة إلى سن الزواج”.. هل يمكن أن تقتنع بهذه العبارة؟!

هذا ما يراه الدكتور مختار الكسباني أستاذ العمارة الإسلامية بجامعة القاهرة ليقول: كان التخطيط الرئيسي للمدن مكونًا من **** رئيسي تتفرع منه عدد من الحارات أو الأزقة بشكل يسمح بالامتداد العمراني بنفس الأسلوب، وكانت المدن تنشأ بالقرب من مصدر مائي كنهر أو منطقة آبار، وبمنطقة تصلح للزراعة حتى تسمح بسهولة العيش والبقاء بهذه المدن.

لكن كان أهم ما يميز تلك الحارات السكان الذين يتم توزيعهم بطريقة متميزة إلى حد بعيد؛ فقد كان أهم ما يضعه المخطط للمدن الإسلامية في اعتباره هو علاقات حسن الجوار؛ فكان يسكن في كل حارة أبناء قبيلة واحدة أو عائلة كبيرة واحدة؛ فنرى في القاهرة القديمة “حارة الروم، حارة الديلم، حارة برجوان، درب سعادة” وغيرها، وكلها تدل على أن من كانوا يسكنون تلك الحارات كانوا من نسيج واحد، أغنياء وفقراء من نفس العائلة الكبيرة؛ بحيث يعطف غنيهم على فقيرهم.

وتنشئ تلك الحارات لنفسها بذلك التركيب حمايةً طبيعية من اعتداء أحد الأفراد على الآخر، تحكمهم قواعد واحدة، وكان هذا النسيج المتماسك يسهل علاقات النسب والزواج فيما بينهم؛ فكل أسرة تعرف جيدا كل شيء عن الأسرة الأخرى.

وكان هناك “المحتسب” أو شيخ الحارة أو كبيرها أو كبير العائلة أو القبيلة الذي يسأله راغب الزواج عمن يتقدم لخطبتها؛ لأنه يعرف كل كبيرة وصغيرة في الحارة، وعلى يديه يتم القران حتى دون عقود أو توثيق؛ فالحارة كلها شاهدة على الزواج وضامنة لهذا الزوج ولهذه الزوجة أيضا؛ فلا خوف من جور أحدهما على الآخر، أو عدم وثوق طرف في آخر يجعله يحاول تكبيله بقيود مادية فوق طاقته كما يحدث الآن، ويؤدي إلى عدم إتمام الكثير من الزيجات.

ويتابع د. مختار: حاولنا في وقت من الأوقات أن نفعل أمرًا مشابهًا في بعض أحياء القاهرة، فتم إنشاء حي لأصحاب المهن الواحدة، مثل حي المهندسين، ومدينة العمال، ومدينة المبعوثين… وهكذا، لكن التجربة لم تنجح كما هو الأمر في حارات المخطط الإسلامي، لعدم وجود رابط اجتماعي بين أصحاب تلك المهن من جهة، ولدخول فئات أخرى بين السكان وتغيير شكل العمائر ودخول عناصر جديدة فيها؛ وهو ما يغير الشكل المميز لهذه الأحياء شيئا فشيئا من جهة أخرى.

البيوت وأسرارها

فإذا انتقلنا من تخطيط المدن إلى تصميم المساكن ومواد البناء، اكتشفنا أن لتحول تصميم المسكن ومواد البناء إلى ما يسميه الكثيرون “العمارة اللاأخلاقية”.. علاقة غير مباشرة بزيادة معدلات “العنوسة”.

يشرح لنا ذلك الدكتور مختار قائلا: البيوت العربيةُ الطرازِ كانت ذات طابع يحافظ على أسرار البيوت؛ فالأسقف عالية ومعزولة بالخشب الذي لا يسرب الصوت بسهولة، والجدران سميكة لا يقل سُمكها عن 60 سم، بخلاف البيوت الحديثة التي لا يتجاوز سُمك حوائطها 12- 15 سم، وتسمح بمرور الصوت خارجها، وهو ما يجعل أسرار البيوت معلنة للبيوت المجاورة والمساكن المجاورة، وهذه الأمور تجعل الجيران يطلعون على أسرار بعضهم، ويعرف كل منهم ما ينبغي ألا يعرفه عن الآخر، وهذا يقلل ثقة كل منهم في الآخر؛ فلا يرى ابن الجيران ابنة الجيران تناسبه؛ لأن أهلها كذا وكذا، ويخاف أن تكون مثلهم.

بالإضافة إلى أن ضيق البيوت نفسها قد جعلت حياة من يسكنون بداخلها أكثر عصبية وميلا للشجار، بخلاف تصميم البيوت العربية قديما ذات الصحن الواسع الذي يزرع فيه الشجر والورود، ويسمح بالخصوصية لمن يعيشون داخله في هدوء وراحة نفسية في بيت جيد التهوية والإضاءة والزخارف الفنية.
أما الآن فالطفل والفتى والفتاة يرون تلك المعاناة التي يعانيها الوالدان في ذلك المسكن الضيق الصغير؛ فلا يتمنون أن يعيشوا نفس هذا الشقاء؛ فكل منهم ينتظر حتى يجمع المال الذي يستطيع أن يحيا حياة كريمة في مسكن مناسب، ولا يأتي هذا “الوقت” حتى يتجاوز الشاب الخامسة والثلاثين أو الأربعين، وحال الفتاة ليس بالأفضل.

بيت العائلة.. الدمج والخصوصية

تصميم البيت العربي الكبير المكون من صحن كبير حوله طابقان من الغرف المستقلة، كان يسمح بأن تحيا أكثر من أسرة صغيرة داخل جنبات البيت بما يسمح للزوجين بالخصوصية بعض الوقت، وبالاندماج مع باقي الأسرة الكبيرة لباقي الوقت أيضا، هذا الأمر كان ييسر أمر الزواج؛ فلن ينتظر الشاب حتى يجمع المال الذي يشتري به مسكنا بمفرده؛ فهناك غرفة أو غرفتان متلاصقتان تسمحان للزوجين الصغيرين بالعيش داخل بيت العائلة.

هكذا ويوضح الدكتور “العارف بالله الغندور” أستاذ علم النفس بجامعة عين شمس قائلا: هذا الوضع كان يدعم الأسرة الصغيرة الناشئة اجتماعيا واقتصاديا معا؛ فمن الناحية الاجتماعية كان هناك كبير الأسرة الأب الكبير أو الأخ الكبير الذي يحكم في أي منازعات، ويعمل له الجميع ألف حساب، هذا الكيان الكبير كيان عادل في الكثير من البيوت لا يفضل أحدًا على أحد ويرحب بالزوجة أو الزوج القادم؛ ليكون فردا من أفراد العائلة، ويساعد في تربية الأبناء الصغار، وأخذ المشورة منه؛ فلا يخاف الزوجان الصغيران من تحمل مسئولية الزواج بمفردهما، كما يحدث الآن.

هذا بالإضافة إلى الدعم الاقتصادي لهذه الأسرة الناشئة؛ فكل فرد من الأفراد يضع جزءًا من دخله في يد الأم الكبيرة أو الأب الكبير للمشاركة في مصروف البيت، والباقي يكون له ولأولاده، والجميع يأكلون ويشربون ويلبسون أيضا من ذلك “المصروف” حتى لا ينظر أحد لأحد أو يغار شخص من آخر، وكان هذا نوعًا من أنواع التكافل الاجتماعي للأسرة الناشئة حتى يمكنها من مدخراتها أن تنشئ بيتا مستقلا، وتنشئ وحدة اقتصادية جديدة.

الأسرة الممتدة.. هل تعود؟

هنا تجيب د. نادية حليم أستاذة علم الاجتماع السكاني بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية، قائلة: هذه الأسرة اختفت الآن حتى إنها كادت أن تتلاشى في الريف، ولا يمكن أن تعود بنفس الوضع الذي كانت عليه؛ لتغيير وضع المرأة في المجتمعات العربية، وتغيير طريقة تفكير الشباب أنفسهم؛ فهذه الأسرة الكبيرة لم تكن فيها امرأة غير السيدة الكبرى (الأم)، أما باقي الزوجات فليس لهن إرادة أو دور، والشباب يفكرون في الاستقلال وبناء حياة جديدة بعيدًا عن تدخلات الأم أو الحماة، وإذا حدث الآن وتزوج أحد الأبناء مع الأب أو الأم في تلك المساكن الضيقة العادية تحدث الكثير من المشكلات، ويفقد الزوجان الصغيران الاقتراب والتقارب وتبدأ المشاكل.

وأرى أن الحل هو أن يقنع الزوجان بمسكن صغير مستقل يبدآن فيه حياتهما ويكبران شيئا فشيئا؛ فاللجوء إلى المساكن العشوائية كما حدث في بعض مناطق القاهرة أظهر كثيرًا من المشكلات الاجتماعية؛ فعندما تخلت الدولة عن إنشاء مساكن بأسعار معقولة للشباب، بدأ الكثيرون في بناء مساكن دون ترخيص ودون خدمات ودون تخطيط من باب الأمر الواقع، لكن التخطيط السيئ لهذه المساكن خلق الكثير من المشكلات الاجتماعية كالانحرافات والسرقة وغيرهما.

منى درويش